محمد شريف
محمد شريف

د

معضلة أوطيفرون

يمكننا أن نعتبر المعضلة تلك المسألة الصعبة التي إذا ما وجدت لها حلاً، أدى بك هذا الحل لنتائج لن تعجبك أبداً، وقبل أن نخوض في ذكر معضلة أوطيفرون، لا بُد أولاً أن نسرد تلك المحاورة التي دارت بين سقراط وتلك الشخصية المُسماة بأوطيفرون والتي خرجت المعضلة من رحمها.

تسبق محاورة أوطيفرون تاريخياً لحظة دفاع سقراط عن نفسه، تلك المحاكمة الباطلة التي صمد أمامها بكل جدارة ومنطق لكن القدر لم يكن حليفاً له آنذاك.

ذات يوم كان سقراطاً ذاهباً للمحكمة، وفي الطريق التقى بشخص يُدعى أوطيفرون، وكان أوطيفرون هذا رجل دين، فبادره بالسؤال: “إلى أين تتجه يا سقراط؟” فأجابه: “إلى المحكمة” وهنا تفاجأ أوطيفرون بعض الشيء، فلم يكن سقرط ذلك الشخص الذي يميل نحو الذهاب إلى المحاكم بل أن هذا المكان من ضمن الأماكن المُستبعد الذهاب إليها بالنسبة لسقرط، وعندما سأله أوطيفرون عن السبب، أخبره بأن هناك من وجه إليه بعض الاتهامات ومن ضمنها إنه مُفسد لعقول الشباب، ويسعى لنشر دين جديد ويبذل قصارى جهده في النيل من آلهة السابقين.

أما عن عِلة ذهاب أوطيفرون إلى المحكمة، فقد سأله سقراط عن ذلك أيضاً، وكانت الإجابة هي رفع قضية لمحاكمة أبيه بقتل أحد العبيد في لحظة انتشاء وسكر، وهنا تعجب سقراط، وأخبره إذا ما كان العبد قريباً له أو من المنتسبين إلى العائلة، فكان رد أوطيفرون أن القتل هو القتل، ولا يجب التقريق بين المقتول، ففي كل الأحوال هناك قاتل ومقتول، وأن المهم هو العدل، وهل كان في قتل هذا العبد مُبرر أو انتصار لقضية سامية أم لا، ولسوف يعتقد البعض أن من الضلال وعدم التقوى أن يتهم الابن أباه بهذا الجرم، لكنهم لا يعرفون التقوى على أي حال، ولم يفهموا حقيقة الدين والإلهة.

وهنا يُبادره سقراط بتساؤل: “وهل أنت يا أوطيفرون تعرف حقيقة الإلهة والتقوى؟ وهل لديك المعرفة الكاملة لتكون قادراً على معرفة الحق من الضلال؟ فتقديم بلاغ في أبيك هو في حد ذاته عمل غير تقي أبداً !

وكان رد أوطيفرون بأنه يعرف حقيقة الأمور الدينية والأخلاقية حق المعرفة. وهذا ما دعى سقراط للقول: ” أن أفضل شيء يمكن أن أفعله الآن هو أن أكون تلميذاً لك.” ثم أردف: “ما التقوى برأيك وما الضلال؟”

واعتبر أوطيفرون التقوى أن يفعل الناس ما يفعله الآن، أن يُقاضي الإنسان كل شخص ارتكب رذيلة سواء كانت سرقة أم قتل، وأن لا يستبعد أقاربه وأهله من ذلك، فإن كانوا من المشتركين في إحدى الجرائم، فعليه أن يُقاضيهم دون شفقة أو تفكير.

“إن الناس يا سقرط يقدرون زيوس ويبجلونه ويعتبرونه خير الإلهة وأكثرهم عدلاً رغم معرفتهم التامة بأنه قيد أباه، لكن عندما يتعلق الأمر بي فأنا مذنب لأنني اتهم أبي على جرمه، أليس هذا تناقضاً يا سقراط؟”

يبدأ سقراط بعد ذلك بطرح بعد الأسئلة حول ما إذا كان أوطيفرون يصدق في تلك الأحداث والصراعات والحروب التي دارت بين الإلهة، وكان أوطيفرون مقتنعاً بالأساطير والحروب القديمة التي خاضتها الإلهة حتى أنه سأل سقراط حول إذا ما كان لديه رغبة في سماع بعضها، لكن هذا الأمر لم يكن يشغل بال سقراط أبداً، وهنا بادر بسؤال يمثل له أهمية كبرى: ” فلنعود مرة أخرى إلى الوراء، ولتعطني إجابة أرجوك، ما التقوى؟ لقد قلت أن ما فعلته هو التقوى، أليس كذلك؟

_ نعم هو كذلك.

لكن بالتأكيد هناك أشياء أخرى تقية غير حادثك هذا!

_ بالطبع

إذن اخبرني عن التقوى ذاتها، ما حقيقتها والشكل الخاص بها، ما النموذج أو المثل الذي تظهر عليه، كيف استطيع أن أعرف أن ما أفعله تقياً أو باطلاً !

_ ببساطة يا سقراط، الفعل التقي هو الفعل المُحبب لدى الإلهة، أما الفعل إذا لم يكن محبباً لديهم فهو فعل غير تقي.

بالظبط. هذه الإجابة التي كنت أسعى لحصدها منك، ولكن أليس في هذا التناقض؟ أجبني أولاً، أليس بين الإلهة صراع وشقاق؟

_ نعم هذا ما يُقال.

وأليس هذا الشقاق يسري أيضاً على بعض المسائل التي قد نتجادل -أنا وأنت- فيها كالعدل والجمال والقبح والصواب والخطأ؟

_ نعم هو كذلك.

إذن فقد يذهب بعض الإلهة إلى اعتبار هذا الشيء تقياً وجميلاً، بينما يذهب البعض الآخر إلى اعتباره قبيحاً ولا يُمثل التقوى! فهناك شقاق بين الإلهة على الشيء نفسه، منهم من يراه تقياً، والآخر يرى خلاف ذلك، وأنت تقول أن الفعل التقي هو المُحبب من قبل الإلهة، بينما الإلهة ذاتها تختلف في حكمها على هذا الشيء، فما تحبه الإلهة هو ما تكره في نفس الآن، ومن ثم فقد يكون اتهامك لأبيك فعل تقي بالنسبة لزيوس بينما هو ليس كذلك بالنسبة لأورانوس أو كرونوس.

_ ولكن لا خلاف بين الإلهة على ضرورة مُعاقبة القاتل يا سقراط.

وهل يُسلم أحد بأنه قاتل يا أوطيفرون؟ وإذا فعل، فهل سيعترف بذنبه؟ فلا أحد بامكانه التصريح بالحقيقة كما هي، ليس لأحد الشجاعة على ذلك، وليس في التنازع هذا بين تبرير الذنب وبين الحقيقة إلا مثال للنزاع الدائر بين الإلهة أيضاً، فقد يكون الفعل ظلماً لكنه من ناحية أخرى قد يكون عدلاً من جهة الإلهة، فهل هناك دليل على أن الإلهة -جميعها- تتفق على أن ما تفعله الآن تقوى؟

وتدور المحاورة حتى يطرح سقراط سؤاله الذي هو في حقيقة الأمر المعضلة التي يدور حولها سردي هذا.

” هل المقدس محبب لدى الإلهة لأنه مقدس أم أنه مقدس لأنه محبب إليهم؟”

أو بمعنى آخر، هل يأمرك الله بفعل الخير لأن هذا الفعل خير بذاته أم أنه يأمرك به لأنه يرى أنه خير لك؟

وهنا نقع في المعضلة الكبرى التي لا حل لها، فعلى سبيل المثال إذا قلنا أن هناك أب أراد ذبح ابنه، فما هو حكمكم عن هذا الفعل؟ بالطبع فعل غير إخلاقي ! بينما هو لم يكن كذلك عندما شرع النبي إبراهيم -بوحي من الله- بذبح ابنه، إذن فالله هنا هو معيار ما هو خير وما هو شر، ويتضح ذلك أيضاً عند قتل الغلام وخرق السفينة، فهي أفعال بالنسبة لك غير أخلاقية، ويكون الفعل أو المصطلح فارغ من معناه إذا ما كان تحديد قيمته راجع ليد عُليا. وهذا الجواب ستصل إليه إذا اخترت التصريح بأن المقدس كذلك لأنه محبب إليهم أو أن الخير هو ما كان محبباً للإله.

وإذا ما قلنا أن المقدس محبب للإلهة لأنه مقدس أو أن الفعل خير بطبعه، فإن ذلك سيقودنا إلى اعتبار أن هذه الأفعال أو الأشياء منفصلة عن الله، وليس هو خالقها، فهي -بهذا الاختيار- خارجة عنه، فالله بذلك ليس كلي القدرة على حد اختيارك.

إذن فما توصلنا إليه أن سواء اختارنا هذا أو ذاك، فلن نصل إلى نتيجة مقبولة أو مرضية، ولذلك كانت المعضلة.