د. فادي عمروش
د. فادي عمروش

د

كيف تصبح خبيراً في مجال ما؟

في فيديو مميّز يستحق المشاهدة فعلاً، يناقش المقدم الظريف ديريك موللر ضمن قناته المميزة على يوتيوب لتبسيط العلوم موضوعاً مهماً، يتناول فيه الخطوات التي عليك اتباعها لاكتساب الخبرة في مجال ما، وقد اعتمد في هذا الفيديو على دراساتٍ مهمة ولقاءاتٍ مهمة حول الموضوع، وقام بمقاربته بأفضل شكلٍ بحسب خبرتي في هذا المجال.

هل إتقان لعبة الشطرنج يعتمد على الذكاء أم الممارسة؟

يبدأ الفيديو بالتساؤل الذي لطالما دار في خلدنا: هل لاعبو الشطرنج المتمرسون أكثر ذكاءً من المبتدئين؟ في تجربة لبعض العلماء لمعرفة ما الذي يجعل الخبراء من لاعبي الشطرنج مميزين؛ بحثت التجربة لمعرفة: هل لدى هؤلاء المتمرسين في لعبة الشطرنج معدل ذكاء عالٍ بشكل لا يصدق، ومنطق أفضل مقارنةً بغيرهم من ذوي ​​الذاكرة القصيرة المدى، أم لا؟

جاءت التجربة على ثلاثة مستويات خبرة للاعبين، بين مبتدئ، ومتوسط، وخبير؛ ليتم عرض لوحة شطرنج بحوالي 25 قطعة موضوعة كما قد تكون في أثناء اللعبة لمدة خمس ثوان؛ ومن ثمّ يأتي الطلب منهم بنسخ الترتيب من ذاكرتهم على لوحة ثانية أمامهم. كانت النتيجة بأنّ ذي الخبرة استطاع تذكر موقع 16 قطعة؛ بينما المتوسط ثماني قطع؛ أما المبتدئ فأربع قطع فقط. انتقل الباحثون بعدها لتجربة ثانية، وهي ترتيب رقعة الشطرنج بوضع قطع الشطرنج في مواضع عشوائية لن تظهر أبداً في لعبة حقيقية؛ هذه المرة أرتجّ على الخبراء، ولم يكن أداء خبير الشطرنج أفضل من أداء المبتدئين؛ حيث أنّه بعد النظرة الأولى، تذكر جميع اللاعبين -بغض النظر عن خبرتهم- موقع ثلاث قطع فقط حين كان تموضعها عشوائياً دون هدف على الرقعة. 

لقد كانت النتيجة واضحة؛ خبراء لعبة الشطرنج ليسوا استثنائيين بذاكرتهم بشكل عام، وإنما هم استثنائيون بذاكرتهم التي درّبوها على تذكر خطوات اللعبة. بعبارة أخرى، لا يتمتع خبراء الشطرنج بذاكرة أفضل بشكل عام، لكن ما يميّزهم حقاً الذاكرة الخاصة لمواقف الشطرنج التي يمكن أن تحدث في لعبة حقيقية، وهذه الذاكرة عندهم أفضل مما هي عليه عند المبتدئين، وقد اكتسبوها بالممارسة لعشرات أو مئات أو حتى آلاف العاب الشطرنج سابقاً، خلافاً للمبتدئين والمتوسطين الذين لم يمروا بتلك التجارب. 

بمعنى آخر، إنّ ما يجعل خبير الشطرنج مميّزاً، هو أنّه شاهد الكثير والكثير من ألعاب الشطرنج؛ وخلال ذلك الوقت تعلمت أدمغتهم الأنماط؛ وأصبحت بدلاً من رؤية القطع الفردية في المواضع الفردية، فإنّها ترى مجموعة من الأنماط.

إذا أردنا تشبيه ذلك بمقاربة أخرى فهو يشبه حفظ أبيات الشعر، فلا يتعلّق ذلك بأنّ ذاكرة حفظ الكلمات بشكل مفرد لمن يحفظ معلّقة ما هي أقوى  من ذاكرة شخص آخر، وإنّما بسبب ممارسته وتكراره لقراءة وحفظ أبيات الشعر أصبحت ذاكرته تعامل كل بيت شعر أو كل مقطع من قصيدة على أنّها نمط بحد ذاته.

وهذا يقودنا إلى أربعة معايير هامة لتصبح خبيراً في أي مجال:

التكرار مع التقويم المستمر وتحسين المحاولة

قيل سابقاً بالأمثال: التكرار يعلّم الشطّار، وبعيداً عن الأمثال فقد وجدت العديد من التجارب أنّ التكرار يلعب دوراً مهماً في بناء الخبرة في أي مجال، ولكن لا يكفي البتة مجرّد تكرار الأمور على حالها، وإنّما تكرار الأمور مع أخذ التقويم أو رد الفعل الناتج عن التجربة؛ لتحصل على خبرة متكررة من نفس النوع من التحديات.

إنّ مجرّد التكرار دون تصحيح الأخطاء والتعلّم منها لا فائدة ترجى منه، على سبيل المثال: لن تستفيد من ضرب المئات من الضربات الأمامية بتدريبات لاعبي التنس، وآلاف مرات التكرار مع لاعبي الشطرنج، وآلاف المسائل الفيزيائية أمام علماء الفيزياء، إذا لم يكن لديك مدرّبٌ أو معلّم يشير إلى أخطائك، ويعطيك تقييماً لتحسين أدائك مع مرور الوقت.

وجود بيئة مناسبة منتظمة  

يجب أن تتواجد ضمن بيئة واحدة منتظمة تساعد على التعلّم، وتتسم بالانضباط والقواعد الواضحة، بحيث تتعلم حقاً من نتائج محاولاتك، فلا تفيد المحاولات المتكررة في بيئة من دون قواعد؛ كرمي النرد مثلاً، إذا رميت النرد مئات المرات لن تكتسب الخبرة لرمي النرد لتحصل على ما تريد، فهي بيئة من دون قواعد.

 الحصول على تقويم في الوقت المناسب

من المهم أن تحصل على تقويم في الوقت المناسب للتعلم وتحسين أدائك، شتّان بين الحصول عليه بشكل وفوري أو في وقت متأخر، فمثلاً يذكر عالم النفس دانيال كانيمان الفرق بين أطباء التخدير وأخصائيي الأشعة، وكيف يكتسب أطباء التخدير الخبرة بشكل أسرع؛ حيث يعمل أطباء التخدير بجانب المريض ويحصلون على رد الفعل على الفور، ليروا هل المريض فاقدٌ للوعي مع وجود علامات حيوية مستقرة؟ مع هذه التعليقات الفورية، يكون من السهل عليهم التعلم واكتساب الخبرة، بينما لا يحصل اختصاصيو الأشعة على ردود فعل سريعة على تشخيصاتهم للصور الشعاعية -إذا ما حصلوا عليها من الأساس- وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة إليهم لبناء خبرة قراءة الصور الشعاعية؛ لذا وبشكل مختصر، فأنت بحاجة إلى وضع التقويم والملاحظات في الوقت المناسب لتتعلم الأنماط.

الخروج من منطقة الراحة

في بداية تعلمك لأي مجالٍ _كقيادة السيارة على سبيل المثال_ يتعين عليك التدريب على حدود قدرتك، ومن ثمّ ينبغي أن تتخطى منطقة راحتك، وأن تستخدم الكثير من التركيز والمحاولة بشكل منهجيّ للقيام بأشياء لا تجيدها، وهنا يحضرنا مبدأ الممارسة المتعمّدة، وقد أشار إليها مالكوم جلادويل وهي قاعدة 10 آلاف ساعة عمل، والتي تعني أنّه لتصبح خبيراً في مجال ما عليك أن تتدرب لآلاف الساعات في المنطقة غير المريحة، وتحاول القيام بأشياء لا يمكنك فعلها بعد.

خاتمة

لبناء الخبرة في مجال ما عليك ممارسته بشكل مكثّف ومستمر لمدة تصل إلى 10 آلاف ساعة عمل، وبظروف غير مريحة تتعلم منها مع مرور الوقت، ولا يكفي ذلك فحسب وإنّما يجب أن يقترن بوجود تقويمات مستمرة لك أولاً بأول لتحسّن أداءك، ولا يبدو ذلك كافياً وإنّما يجب أن تأتي التقويمات بشكل فوري مباشر؛ لتتعلم بناء الأنماط وليس بشكل متأخر، وحين تثابر بهذا الشكل فستحصل على أداء مذهل، وتذكّر أن تغافلك عن ذلك يعني أن تعمل ل 10 الاف ساعة مع بقائك في مكانك، وكما قال آينشتاين: الجنون هو أن تفعل ذات الشيء مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً.